خذني إلى نسيان آخر / مقطع من الفصل الأول
[1]
نعم، أنا أيضا أقدر أن أحكي قصتي..
قصتي المليئة بلوعات الحزن ونشوة اللقاء، بالغدر والمآسي، بالمغامرات والكفاح، بالقبلات والخَبَل والمجون..
أنا أحكي وأنت تكتب.. اتفقنا!؟
ولا مانع لدي أن تحدث تغييرات طفيفة في الأسلوب وتنمق العبارات. طبعا هذا عملك، ولا دخل لي فيه، فقط عليك الوثوق بي وبأن قصتي نادرة الوجود، بحيث لا يملك القراء إلا أن يقتلوا أنفسهم بكاء حتى تنفد من السوق كل الطبعات.
صدقني، لطالما جربت أن أحكيها لكثيرين، كانوا في الغالب يستسلمون لحالة تأثر بالغة، وهذا لا يوحي أبدا بأن جميع الأبطال انتهوا إلى الموت،.. فما دمت أمامك، الآن، هذا يعني منطقيا أنني أنا... أنا على الأقل لم أهلك تماما.. ولن أهلك حتى بعد أن أنهي معك ما أبدأه الآن، أعني فصول هذه القصة التي ستكون أنت كاتبها والشاهد الأول فيها والطرف الأكثر تورطا في أحداثها وشخوصها. لكنك في كل الحالات لن تهلك تماما، مثلما لم أهلك أنا. ألا تراني!؟.. انظر إلي إذن.. هذا منخري وهذه مؤخرتي، أقهقه وأهذي وأرمم مكياجي.. أدور من حولك.. أدخن.. أبتلع حبات ملعونة.. وحين أتعب أستلقي بالقرب منك وأنام حتى يأتي الصباح فيدفرني السرير.. أستفيق دفعة واحدة.. أستعيد اتزاني ورجاحة عقلي وأقوم بواجباتي كما يفعل جميع المجتهدين الذين لا يتعجبون من هذه الدنيا العجيبة.
قل لي بالله عليك.. ما معني أن تكون كاتبا ولا تملك حكايات!؟ بينما أعيش أنا كل يوم حكاية مختلفة مع أناس مختلفين، ولشدة غبائي لم أفكر بكتابة أي منها، تصور!! على الرغم من ذلك لم نخسر شيئا، لا تيأس، كلانا وجد الآخر. سأعطيك حكايتي كاملة، أما أنت، فما عليك إلا أن تدونها، هكذا تكون شراكتنا مثمرة ونربح الكثير من المال، نتقاسمه فيما بعد ثم نفترق.. إذ لا جدوى من بقائنا سويا بعد ذلك، أم أنك..!؟ آآآه.. دعني أتفحص نظرتك، واجهني هكذا، عينا لعين، حدق في ما استطعت لأرى إن كنت تريد شيئا آخر؟...
تريدني أنا..!؟
لا.. لا.. أنت ذو فطنة ونباهة، لك عمل وبيت، ولك أهل يفخرون بك، لهذا فإنك لن تخيب ظنهم فيك.
أنت بالتأكيد لا تريد مني إلا أن أحكي كي تكتب أنت، وأنا أريد منك أن تكتب ما أحكيه أنا، بعدها... تذهب أنت بفضلي إلى المجد، وأنا بفضلك أذهب إلى.. إلى... هه.. إلى.. حيث لا أجدك.. لأنني ببساطة لا أطيق الحياة بالقرب من رجل تنصحني الدنيا بأن أحبه.. رجل يعطيني كل ليلة جسده ملفوفا في ورق السيلوفان ثم يتمدد وينام مستيقظ الضمير..
رجل هو أنت..
وفتاة لم يعد بوسعها أن تحلم ببيت يأويها وكتف تبكي عليه، هي أنا... سونيا.
****
.... دائما كنت أدعى سونيا.. قبل وأثناء وبعد ولادتي، في البيت، في الشارع، صيفا وشتاء، في سجلات المدرسة، في محاضر الشرطة.. تحت.. فوق.. اسمي ولن أغيره، تفهم..!؟ حتى وإن أتيح لي ذلك، إنه الثابت الوحيد في حياتي، بينما العالم يتحول وينقلب. والناس يتحولون وينقلبون. ويبقى اسمي واحدا مهما تعدد في حياتي الآخرون.
نادتني به أمي ـ بالضبط ـ يوم اكتشفت بأنها حامل بي، وبعد ذلك ناداني به المدعو زوج أمي، ثم رجلي الأول «حمو» وأخيرا أنت. وسيناديني به هذا الذي تسميه الراوي، إذا،.. اجعل اسمي عنوانا لكل فصول هذا الكتاب، وضعْ على الغلاف،... ضعْ صورتي أنا، بعد أن أكون قد ابتلعت حفنة حبوب مخدرة تكفي لتنويم عشرين حصانا، وما هي إلا لحظات قصيرة، تيك.. تيك.. تيك... هدو...ــووء وأفقد أنا كامل إرادتي، تغمرني هالة من النور، وأهوي بعد ذلك...... هووووب، هكذا بالتصوير البطيء.. سترى كم يثير ذلك مشاعر الجمهور!!.
أنا واثقة بك وباسمك، إذا مقابل ذلك ثق بي وباسمي.
أما «نعوم» فهو لقبي العائلي، وهو كل ما ورثته عن والد لم أره أبدا، ولا أعرف عنه سوى اسمه، والمنطقة التي جاء منها، وأنه كان مواظبا على قراءة الجرائد، يسافر كثيرا، وشغوف بالبحث عن المال، عاش مع أمي أكثر من ثلاث سنوات حتى ظهر حملها بي،... ... هه فطلقها، نعم.. من دون أدنى سبب، وتزوج من امرأة أخرى، قيل إنه هاجر معها إلى بلجيكا، ولا أدري لعله لا يزال هناك. ولعله أيضا سيظهر في حياتي ثانية لأسأله فقط... أسأله فيجيبني.. يجيبني لأعرف فقط،، أي صوت هذا الذي لا يُردُّ له أمر جاء من الغيب وأوحى لوالدي أن يهجر أمي لمجرد أنني كنت سأصبح ابنتها!؟ وقد أصبحت بالفعل، تماما كما أوحى الصوت ذاته أو أي صوت آخر دخيل لأمي بأن تأكل وتشرب وتنام قريرة العين لأنها ستلدني ذات يوم، طبعا نكاية في المتشفين، وقد ولدت بالفعل كما ترى، ورحت أنمو وأترعرع إلى أن صرت على ما أنا عليه الآن... أي بين يديك.. ملهمتك وصنيعة إلهامك.. أحكي لك وأنت تكتب.. تكتب لتسوّد مئات الصفحات وتنتصر على كسلك الذميم وعلى كل من شككوا في مواهبك.
مشكلتك أنك كنت تستخرج الحكايات من رأسك، وهذا لا ينفع الناس ولا يثير اهتمامهم. لقد أسمعتني ـ في السابق ـ كثيرا مما كتبت، بصراحة لم أشعر بأي تأثر، ذلك أن جميع أبطال قصصك خياليون، لا يوجدون في هذه الحياة مثلما أنا موجودة.. موجودة أمامك بشحمي ولحمي أواجه وحيدة كل هذا العراء، لا عائلة ولا جيران، لا أصدقاء ولا معارف، لا شيء سوى ذكريات سوداء عن أم ولدتني وربتني في بيت حقير تفوح من جدرانه روائح داعرة
أنا التي ما إن أخذت مكاني في بطن أمي حتى انتهت مهمة والدي وهاجر إلى ما وراء البحر من دون سبب ظاهر، تعرف..!؟ إن أمي لم تتذكر والدي يوما إلا وبكت، فهو ـ كما تقول ـ لم يعاملها أبدا بسوء، بل إنها تعتبره زوجا مثاليا، وسيد الرجال، أحبها واحترمها إلى أن تدخلت قوة الحسد ففرقت بينهما، فلم يبق من أمل لها سوى أن تلدني... وبالفعل كان القدر رحيما بها وحقق لها هذا، فخرجت أنا من بطنها إلى الدنيا لأصبح ـ فعليا ـ سونيا، في 29 أوت 1982، يوم ميلادي طبعا.
لقد أصبح هذا التاريخ بمثابة عيد نصر تحرص أمي على إحيائه كل سنة، ربما من أجل نفسها لا من أجلي، ولا أدري عما إذا كانت في المرة السابقة قد أحيته كالمجنونة بمفردها، بعد أن ودعتها وغادرت المنزل إلى غير رجعة، لألقيك في يوم لم يكن في الحسبان، ونصبح شريكين.
هل تعرف؟. لقد مضى على تعارفنا أربعة أشهر وبضعة أيام، عملنا فيها معا.. ومشينا وقعدنا ونمنا وصحونا معا، واحتفلنا قبل أسبوعين معا بمناسبة بلوغي سن الرشد، الذي طالما انتظرته لأعيش الحياة التي أريد.. الحياة التي لا أصطبح فيها على وجه ذلك القواد النتن.. الذي لا يمكن لأحد أن يحسد أمي عليه، والذي لا يجدر بي إلا أن أدعوه زوج أمي... كما لو أن هذا اسمه أو وظيفته.
أنت رأيت زوج أمي ذات مرة هل تذكر؟ لقد حكت لي أمي أنها التقته بعد سنتين من ولادتي، ويحكي المناوئون لأمي أنها صارت تستقبله في البيت، مرات عديدة كل يوم، مدعية في بادئ الأمر أنه من أقربائها، لكن الأكيد أن استمرار علاقتها الغريبة به جعل أنوف الجارات تطول وتطول.. لتتشمم فراش نومها، وهكذا مرت الأيام.
بالنسبة لي، كنت صغيرة، لهذا وعيت الدنيا شيئا فشيئا بعدما كنت قد تعايشت مع هذا الوضع في البيت، لكن مهما يكن فإن أسئلة مريبة لا حصر لها، تسربت إلى رأسي وأعاقتني فيما بعد على شق طريقي بخطى سوية، فكنت أكبر ويكبر احتقاري لأمي وبغضي لذلك الرجل الذي استفحل في حياتها فصارت تتجاهل الكل من أجله.. لكنها بالمقابل والحق يقال كانت تتجاهله من أجلي، وكانت تتركه لساعات طويلة نائما على الأرض، وتمنعه من زجري إذا أنا بصقت عليه أو شددته من شعره الأصهب.
وكم أتمنى أن أبصق عليه دائما.
تفووووه...
****
حينما بلغت السادسة من عمري أخذتني أمي إلى المدرسة وتزوجته. فصار يمسك بيدي كما يفعل أب فاضل ويصحبني إلى صفي. وتنفيذا لأوامر أمي كان لا يغادر حتى يطمئن على أنني أخذت مكاني في الطاولة الأولى من القسم، وغالبا ما كان يتبادل مع المعلمة كلمات قصيرة، ينهيها بهزة رأس خجولة ثم يلوح لي وينصرف.
في أوقات خروجي أجده بانتظاري مكوما على رصيف محل «كولومبيا»، الذي كان يقع مقابلا لبوابة المدرسة، ولا يزال حتى الآن، مكتوبا في أعلاه بخط عريض مائل "خدمات الهاتف" والحق أقول لك، إنه محل لكل الخدمات إلا ما يتعلق بالهاتف؛ هذا ما عرفته فيما بعد، وفيه أيضا يباع كل شيء.. أدوات الدراسة والزينة، مجلات "البورنو"، العملة الصعبة، صور النجوم، العطور، البطاطا المقلية، أشرطة الأغاني الراقصة، الألبسة المستوردة أفلام الفيديو.. والأهم من ذلك أنه ملتقى شباب الحي وأغلبهم من باعة المخدرات والشواذ والقوادين وتجار المسروقات.. هكذا كانت تصفهم أمي التي طالما حذرت زوجها من أن يكون له علاقة ما بصاحب هذا المحل وبالشلة المحيطة به، بينما كان زوج أمي في كل مرة ينكر ذلك بشدة، متذللا، ويقسم بأغلظ الأيمان كما يفعل مراهق شاذ بأن لا علاقة له بأي كان في هذا الحي.. لكن أمي تكذبه ولا تصدق إلا قلبها، ثم تدع للأيام أن تثبت ذلك..
أنت رأيت زوج أمي ذات مرة.. هل تذكر؟ كان برفقتها يوم جاءت تسألك عني فأخبرتها كاذبا بأنني أعمل لديك...
هه ... .... نعم... بالضبط هو.. ذلك الأشقر الخبيث، الذي كان دائما وراءها ككلاب المحطات المهجورة، كان دائما يمشي لاهثا وراءها.. يمشي ويمشب... وهي أمامه لكنها لم تكن تمشي أبدا.. تخيل..!! منذ ولدت لم أر أمي إلا وهي جالسة.. تمضغ العلك.. أو توبخ الجميع.. تفرك شعرها أو تتكئ على جنبها معرضة أسفل جسمها لأشعة الشمس، ولم أرها إلا وهي تعد النقود كقابضة في مبولة عمومية أو تضع الأحمر الصارخ على فلقتي شفتيها ثم تغض عليهما وتتوجه إلى المرآة.. وكانت دائما تفتح فمها... هل رأيت أمي وهي تفتح فمها؟ أعني تتكلم... هل رأيت كيف يخرج منها الكلام،.. دعني أخبرك أنها لم تعد تملك سوى أن تتكلم بعدما أفقدها «حمو» بعض أسنانها العلوية قبل خمس سنوات بالضبط يوم أفقدني أنا كامل عذريتي فلم أعد أملك سوى أنني من برج العذراء، واسمي يطابق جسمي.
... سأحكي لك هذه الحادثة لاحقا حفاظا على منهجية السرد التي اتفقنا عليها، أنا سأحكي، وأنت ستكتب، وسيعرف الجمهور بعد ذلك ما فعله بي «حمو»، قبل خمس سنوات في أحد أيام الأسبوع الثاني من أوت.. شهر الأخطاء السبعة؛ هكذا أسميه، وكم يرعبني أنني في أوت من هذه السنة أبرمت معك اتفاقا بموجبه أكون أنا جاريتك وأميرتك وتكون أنت كاتب سيرتي.... وكم يرعبني فيك أنك أنت بالذات من مواليد هذا الشهر الذي طالما ارتكبت فيه أفدح الأخطاء وتعرضت فيه للذل والمهانة، وطالما ذهبت في هذا الشهر الخطأ إلى المكان الخطأ والتقيت الشخص الخطأ وجعلته يخطئ في حقي. إنني بكلامي هذا لا أعني إلا قاتلي «حمو» ولا أبريء نفسي فقد كنت شريكته في الجرم لكوني قبلت أن أكون قتيلته.. لا أدري ربما آذيت نفسي انتقاما من أمي التي ما إن أبلغتها بما حدث حتى هرولت إليه حاملة سكينة المطبخ لتطعنه لكنها عادت إلى البيت ليلا من دون سكينة ومن دون أسنان وصارت فيما بعد لا تكف عن الكلام بينما أنا لا أكف عن الضحك... أضحك دائما أضحك أضحك حتى يتبلل فخذاي خصوصا حينما تناديني أمي من بعيد: شونيا.. شونيا.. بووووه هل رأيت كيف يخرج منها الكلام..؟ أعني هل سمعت كيف تخشخش اسمي؟
أنت تعرف أمي، قلْ لي إذن أيعقلُ أن أكون.. ـ أنا التي أستكثر نفسي على الدنيا ـ أيعقل أن أكون ابنتها وأن تكون هي من أطلقت علي هذا الاسم؟
لقد أخبرتني أنها نادتني به بينما كنت لا أزال مجرد مضغة في رحمها، ذلك لأنها بالفعل (كما شهد الجميع) تمنت أن تنجب أنثى أشبه ما تكون بي،... تمنت، ثم سوّلت لها نفسها أن تثق بأن أمنيتها ستتحقق بالفعل وفي آخر الأمر حينما دفعها الوحم إلى دفن رأسها في حوض التواليت أقسمت بأن ليس في بطنها إلا تلك التي ستولد وتنمو وتترعرع إلى أن تصبح على ما هي.. (ما أنا) عليه الآن.. وقد أصبحت بالفعل وتحقق لأمي ما بشرت به نفسها مثلما تحقق فيما بعد ما أنذرت به زوجها من أن يكون له علاقة بصاحب محل «كولومبيا» وبالشلة المحيطة به بينما زوج أمي أنكر ذلك بشدة حتى جاء ذلك اليوم الذي افتضح فيه أمره.
دعني أستعمل هذه العبارة "وظهرت صورته الحقيقية أمامي". صورته... ولا أقول ظهر بوجهه الحقيقي، ذلك أنه بلا وجه.
إنه (كائن قفاوي) بامتياز، أقصد من النوع الذي لا يمكن تذكّره وهو عازم على شيء ما أو مقبل على إنسان ما، إنه يدبر، يدبر فقط... يدبر بلا نهاية... فهو اختصارا: "مؤخرة زاهدة في سروال قذر" وقدمان متسختان تجران صندلا متهرئا.. أما لون القميص فهو أصفر. أصفر بياقة محمصة، أصفر... هه تلك الصفرة التي تتكون على مر الأيام والسنين بعد أن تزول الألوان الأصلية، وتزول الأشكال والروائع والتجعيدات ولا يبقى إلا زوج أمي بقفاه وأذنيه وشعره الأصهب. وهو يعيش داخل ذكرياتي التعيسة منكبا في حوار من طرف واحد مع صاحب محل «كولومبيا»، في الواقع لم يكن حوارا، بل كان استجداء مقيتا بالكلام، كان يتكلم كمجنون في صحراء كبرى بينما يداه تؤتيان حركات غريبة كلها توحي بالإذلال، مرفقاه في الأعلى وكفاه على شكل سلة بها كل البيض. يتكلم ويدع رأسه يميل فيتبدل مركز الثقل في مؤخرته. يتكلم بإخلاص فلا يجيبه صاحب محل «كولومبيا» ويكتفي بالنظر إليه ثم يستعد ليبصق على وجهه، أعني على قفاه، لكنه لا يفعل بل ينأى بنفسه كأنه يتقي رائحة فمه.
- أرجووووك محمد.... لا تدعني أبدو هكذا.
أنا أذكر هذا الحدث بكل تفاصيله وأعتبره منعطفا حاسما في حياتي، كان عمري ثماني سنوات وقتها، أو ربما أكثر، كنت في السنة الثالثة، وقد طلبت المغادرة يومها قبل موعد الانصراف من الدرس بسبب شعور بالغثيان أصابني، وهذا يحدث معي عادة، وكان أحد الأعوان في إدارة المدرسة قد كلف الحارس بمرافقتي إلى البيت، لكن بمجرد خروجي لمحت زوج أمي داخل محل «كولومبيا». فشكرت الحارس واتجهت إليه...
لم أكن أعلم أن زوج أمي يأتي لينتظرني كل هذا الوقت، كنت أخرج فأجده مكوما على رصيف المحل، أقف أمامه فيقوم، ثم يمسك بيدي ويرافقني إلى البيت بكل أمانة.
لم نكن نتحدث في الطريق أو ربما كنا نتحدث قليلا، كأن أقول له: "أنت تسرع في مشيك كثيرا" أو أعبر عن قرفي من العرق الذي تفرزه أصابعه وهو يمسك بيدي" ولم يكن يبدي تذمرا من كلامي، كان يطلق عبارات أبوية مبتذلة لا أتذكرها اليوم... إنني أنسى كل شيء ولا أستعيد إلا تلك العبارة المهولة...
- أرجووووك محمد.... لا تدعني أبدو هكذا... كقحبة رخيصة.
قال هذا بينما كنت أنا قد دخلت بالفعل، لقد سمعت العبارة بوضوح تام.
كان صاحب المحل قد رآني فبقي ينظر إلي.... ينظر هكذا. بينما زوج أمي يلقي عليه بكلمات مبحوحة وجمل يائسة لا أتذكر منها شيئا...
صوته مسموع لكنه منخفض، ورأسه منخفض أيضا، يتكلم وينخفض، ينخفض جدا... كأنه يثبّت مصباحا في السقف كأن السقف يضغط على رأسه، وفجأة استولى الصمت على كل الدنيا وبقي هو يتكلم، ويتكلم... فيما نضرات صاحب المحل بقيت مصوبة نحوي، كان شابا في العشرين بعينين سوداوين وشعر أسود وجاكتة جلدية سوداء، وله كتفان واسعان، عندما استدار بدا كأنه حسم في أمر زوج أمي، الذي هو بدوره استسلم فالتفت. وإذا بي أمامه..
أنا وهو عينا لعين...
- منذ متى وأنت هنا؟
- كنت هنا وأنت تتكلم، كنت أنتظر أن تنهي.