الجزائر..الغواية والعناد

في شوارع العاصمة، كلما سمع لهجتي جزائري قال إنهم سامحونا، وتجاوزوا عن أخطائنا في حق الجزائر وشهدائها، فالثورات يذهبن السيئات.
ميدل ايست أونلاين/ بقلم: سعد القرش
الحنين إلى بعض بلاد لها مكان في القلب يبدأ بالرحلة الأولى، وربما قبلها، كأنني عشت عمراً في زمن سابق، وأتوق إلى استكماله، مع أحفاد الذين شاركوني يوماً ما حياة سابقة.
ولكن الجزائر تملك، إضافة إلى الغواية، نوعاً من الصد قبل الرحلة، أتوقعه وأستعد نظريا لتجاوزه، وحين يقع الصد يثور الطفل الذي كنته، وأنفض يدي من الأمر كله، وأعلن إلغاء الفكرة، فيأتيني صوت من بعيد: "كل السفارات فيها تعقيدات"، ويمنحني أبو بكر زمال في الجزائر وسليمى رحال في القاهرة جسراً من المودة، يربط القاهرة بالجزائر.
حيرتي مع الجزائر قبل الرحلة، لا تقل عن حيرتي مع هنري كورييل، كلما قرأت عنه ازداد غموضاً، والثابت أنه منح بيته في حي الزمالك هدية للمجاهدين الذين انتزعوا حريتهم، وأصبح سفارة للجزائر في القاهرة.
كنت مدعواً إلى المهرجان الثقافي الدولي الرابع للأدب وكتاب الشباب (صيف 2011).
الإغراء كبير..أصدقاء قدامى، ومحاور مهمة، وندوة عن ثورة 25 يناير، ورحلة خارج العاصمة إلى قسنطينة أو تلمسان، وضيوف من 15 دولة عربية وأجنبية.
في الرحلة الأولى والوحيدة للجزائر (صيف 2007)، لم يكن لدي حذر، ولا ولع بذكرى سابقة، تركت نفسي لغموض القدر وفرحت، ولم أشغل نفسي بمعرفة أسباب الفرح. والآن يأتي السفر بعد معارك الكلام بسبب كرة القدم. سأعلن لأصدقائي الجزائريين أن بلادهم حسمت المعركة لصالح الشعب المصري، ضد مشروع التوريث الذي أسهم فيه خائفون وطامعون وطامحون، كل بقدر استفادته أو غفلته.
الممثل عادل إمام سخر من الشباب والمظاهرات، وقال في بداية ثورة 25 يناير إنهم "شوية عيال مضحوك عليهم"، ثم قرأ بذكاء اتجاه الريح، وأدرك أنها النهاية، فركب الموجة، واتصل بكثير من القنوات الفضائية معلناً دعمه للثوار.
هو نفسه الذي قال من قبل: "يا ريت جمال يرشح نفسه ويصبح رئيسا لمصر. نحتاج إلى شخص قوي".
مصطفى الفقي قال إن أمانة السياسات "تسهم إلى درجة كبيرة جداً (في وضع الإطار العام للدولة) وتسهم بالأفكار والدراسات شديدة التميز". ("المصري اليوم" 27 / 3 / 2008). تجنب الفقي الإشارة إلى أن نسخة التوريث الكارثية في العراق تعاقب عليها صدام حسين حين كان نائبا للرئيس طامحاً للرئاسة، ثم ابنه عدي الصاعد بقوة، تحت جناح أبيه. وبعد يومين اثنين، وفي الصحيفة نفسها، مد الفقي نفسه يداً إلى الوريث قائلاً: "عندما أحضر اجتماع أمانة السياسات أرى حولي معظم العقول المفكرة من المثقفين والعلماء وأساتذة الجامعات في مصر".
لكن الجزائر، من دون قصد، أغلقت ثغرة أخيرة كاد يتسلل منها مبارك الصغير، إلى الكرسي، ثم اتضح أن الثغرة ظلت موجودة ومتوارية، حتى بعد (جمعة الغضب 28 يناير)، ولم تنته تماما إلا بعد فشل "موقعة الجمل" يوم الأربعاء الدامي 2/2/2011.
ذهب جمال إلى السودان، على رأس بعثة منتخب كرة القدم، ولكن المباراة الفاصلة يوم 18/11/2009، انتهت بفوز الجزائر، وتأهلها لنهائيات كأس العام 2010 بجنوب افريقيا.
كان الترتيب أن يمر سيناريو التوريث من بوابة الجزائر عبر السودان، وأن يحمل الوريث فوق رقاب العباد، في مطار القاهرة، وتخرس الألسنة، وترفع الأقلام، وتجف الصحف، ولكن الجزائر أحبطت خطة اللصوص، فاخترعوا خطة بديلة هي اتهام الجمهور الجزائري بالبلطجة.
كان واضحاً أن لاعبي الجزائر أبرياء من تهمة الإساءة إلينا، لم يكن مطلوبا منهم أن يخونوا بلادهم، ويفتحوا شباك مرماهم، من أجل جمال مبارك. وانصبت اللعنات على الجزائر، حتى إن الحماسة المصطنعة لعلاء مبارك، في برنامج تلفزيوني، حملت لاعب كرة تافها على التباكي، وقال ابن مبارك الكبير بثقة: وداعاً للعروبة. وبغير إحسان، تبعه يوسف زيدان، في "المصري اليوم"، مزايداً وساخراً من "مسميات ما أنزل الله بها من سلطان: الأخوة العرب الأشقاء"، وهذا مقال دال وكاف ليجعلني أفرغ يدي من "اجتهادات" يوسف، وأتخلص من كتبه الغزيرة، بعد أن استعرض بخفة، غير لائقة بباحث، البؤس الذي قال إنه يغوص في نفوس "صحراويين لم تعرف بلادهم يوما نسمات التحضر"، في "ذلك البلد المسمى الجزائر..ورئيسهم الحالي المسمى بوتفليقة"، ثم وجد جذورا لهذا العنف الرياضي "أتذكر..كان معنا فى كلية الآداب طلاب جزائريون بالدراسات العليا، وكانوا والحق يقال مثالا للغباء والعنف الداخلي، والتعصب المطلق (أي التعصب لأي سبب) ومع أن المنح الدراسية المقدمة لهم، ويا للعجب، كانت مجانية، أي أن مصر (المحروسة) تقوم بسدادها عنهم، إلا أنهم كانوا لا يكفون عن التذمر، لأنهم كانوا حانقين على بلدهم! لأنها أرسلتهم إلى مصر وليس إلى فرنسا، كآخرين من زملائهم". (25/11/2009).
في الجزائر، قلت لصديق إن كرة القدم لم تكن سببا في الإلهاء، مرة واحدة على الأقل في تاريخها، واستشهدت بفريق الجزائر الذي أسهم في تقديم موعد الثورة المصرية، وتأجيل قضية التوريث، في ثورة 25 يناير 2011، ردت لنا الجزائر صنيعنا في ثورة المليون ونصف المليون شهيد، وهو قال: "ولكن فوز فريقنا أجل الثورة في الجزائر!".
في شوارع العاصمة، كلما سمع لهجتي جزائري قال إنهم سامحونا، وتجاوزوا عن أخطائنا في حق الجزائر وشهدائها، فالثورات يذهبن السيئات. رأيت واجهة مكتب مصر للطيران محطمة، وتحمل آثار غيظ جماهيري واعتداء على رمز مصر. نبهت أصدقائي، أشهدت خالد النجار وموسى بيدج وقاسم حداد، وضحك الجزائريان حياة سرتاح وأبو بكر زمال الذي قال: انس يا صديقي، ألم يخبرك الناس أنهم سامحوكم؟!
من فندق الأوراسي، حارس البحر والجبل، أطللت عام 2007 على المتوسط والجزائر معاً. يمد الأوراسي جذوره في أعماق المياه، ويلامس سقف السماء، هو الأسمى والأفخم في العاصمة، أما فندق الجزائر (سان جورج سابقاً)، في قلب العاصمة، فهو أكثر عراقة ووفاء وإخلاصا لعاصمة معلقة، فوق متاهة خارجة من طزاجة الأسطورة، تعاند الاستقامة والتبسيط، ويمنحها التعقيد الجغرافي غموضا. في كتيب خاص بالفندق تم تعريف فندق "سان جورج" بأنه "ميراث البريستيج"، وتحرص الإدارة على تعليق صور عظماء ومشاهير أقاموا به، كما حرصت إدارة الملتقى على تنمية الوعي الجمالي لأطفال صغار، في مرحلتي الحضانة والصفوف الأولى الابتدائية، كانوا يتحلقون في جلسات للقراءة بمعرض الكتاب، ويستمعون إلى قصص تفاعلية تليقها آسيا لافي، أو يرسمون الحياة ويلونونها، في ورش إبداعية أدارت بعضها رشا منير، تحت عنوان "عالم الإبداعات..اصنع لعبتك". وسوف أجد بعد يومين في مدينة تلمسان صيغاً أخرى لتنمية الوعي الجمالي والفني لدى الأطفال.
بعيون الخارج من ثورة مصر رأيت الحاضرين شباباً، متوهجين، أسهموا في ثورات بلاد أو ينتظرون نجاح ثورات لم تكتمل بعد، حتى الذين ينتمون لدول تعادي الثورات كانوا يبتسمون بمكر وينتظرون. خالد النجار، الشاعر التونسي المهاجر المشاغب، رأيته للمرة الأولى في الجزائر عام 2007، كنا على غداء، وسمعت منه ما لا يعجبني في تجربة دولة يوليو الناصرية، وكدت أمد يدي وأدفعه.
لم يسعفني لساني، ولا امتلكت من الحكمة ما يكفي لتحمل الاستهانة بتجربة عبد الناصر، الرجل الذي عاديته عشرين عاما، ثم أحببته وعاتبته في العشرين عاما التالية. انتبهت إلى نفسي وخجلت، خالد يتكلم، وهو مهموم ومخلص لا يكف عن الكلام، فلا أقل من الاستماع إليه والاختلاف معه. وفي المغرب عام 2009، كنت أدير جلسة، في ندوة "الرحلة العربية في ألف عام"، وأشاد خالد بتجربة مصر الليبرالية، قبل ثورة 1952، ولم ينسب إلى الثورة فضلا في الفكر والثقافة، هي قسوة محب يرى مصر من بعيد كبيرة، وينتظر منها دورا يليق بها وبه. في رأيه أن ما قالته مصر حتى عام 1952 هو كل ما قالته العرب في القرن العشرين، وأن إسهامات جماعة السيرياليين المصريين في الحركة الشعرية أكثر تقدما من مواقف أدونيس، كتاباتهم وتنظيراتهم أكثر حداثة وعمقاً، أصمت عن الشق الأخير، وأخالفه في الأول مستشهدا باثنين من العقول الموسوعية التي نمت في ظلال الثورة: عبد الوهاب المسيري (1838-2008) وجمال حمدان (1928-1993). وبالمصادفة سجل الأخير في أوراقه الخاصة التي أصدرها أخوه في كتاب (العلامة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة أن عبد الناصر "أول وللأسف آخر" حاكم يعرف جغرافيا مصر السياسية، وأن "الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون...أنت مصري إذن أنت ناصري...حتى لو انفصلنا عنه (عبد الناصر)، أو رفضناه كشخص أو كإنجاز"، فالناصرية في رأيه قدر مصر الذي لا يملك مصري الهروب منه، إنها "بوصلة مصر الطبيعية"، مع احتفاظ كل مصري بحقه المطلق في رفض عبد الناصر لأن المصري "ناصري قبل الناصرية وبعدها وبدونها".
خالد النجار قدري. أتفادى الاصطدام بآرائه الحادة، في صراع الثقافات، في مصر عبد الناصر، في الاستشراق الجديد، في نظرية المؤامرة، وأصارحه بأنني مؤمن بوجود مؤامرة ما، هذا جزء من صراع القوى في التاريخ، ولكنني لست مريضا بنظرية المؤامرة على طريقة بشار الأسد الذي يغلق سوريا منذ أشهر، ويمنع دخول الصحفيين والفضائيات المستقلة والخاصة، عربية وأجنبية. الشاب بشار الذي يلق منذ عشر سنوات، ويتسع عنقه لعشرين مشنقة، يوقن بوجود مؤامرة كونية عليه، ولكن صوت الأحرار أعلى.
خالد قدم لي نموذجاً من المؤامرة على عبد الناصر. قال إنه قابل رجلاً مسناً، في حانة بباريس، والرجل اعترف له، تحت تأثير الشراب، بأنه كان مقاتلاً، وشارك في حرب 1967، وحمل هوية إسرائيلية مثل غيره من الطيارين الفرنسيين، وقصفوا أهدافا مصرية بطائرات فرنسية تحمل علم إسرائيل.
سألني خالد: أليست هذه مؤامرة؟ وكنا نتجول في معرض الكتاب، وكدت أصطدم بباب خيمة تقام فيها الندوات. ابتسمت ولم يسألني، فهو مشغول بالكلام، وأنا أتفادى الاصطدام بآرائه الحادة، فأجدني معه في ندوة (الأدب والالتزام) بعد دقائق. تونسي ومصري على منصة في عاصمة تحذر الثورات، من حسن حظي أنني تحدثت أولا، واستنكرت عنوان الندوة، كان يمكن أن يثار قبل ستين عاما، في عز المد الاشتراكي، والصراع حول دور الأدب في معركة الاستقلال. شددت على أن الأدب الملتزم هو الأدب الجيد، قبل طرح قضية الالتزام ينبغي أن يكون الأدب أدبا إنسانيا، أما التمحك في قضية الاستقلال أو مناهضة الدكتاتوريات فلا يمنح الكتابة الضعيفة قيمة. تتواطأ القضايا الكبرى أحيانا على الفنون، وبعد هدوء غبار المعارك لا يبقى إلا "الأدب"، ولا يشفع حسن النية، ولا نبل الغرض، لنصوص متواضعة كتبت عن ميدان التحرير. من الإساءة للفن أن يكون الواقع أكثر منه سموا وبلاغة.

سألوني عن أحدهم، وقلت إن رأيي فيه معلن ومنشور، ولكن وجودي خارج مصر يمنعني أن أسيء إلى أحد، ولو بذكر حقيقة معروفة. أما خالد فقال إن الشباب الذين أطلقوا شرارة الثورات العربية، وأسقطوا نظامين فاسدين في تونس ومصر، استخدموا أدبا جديدا، وإن الأدب الحقيقي يكتب اليوم في الفيسبوك، النافذة التي أبرزت من الحياة اليومية نصوصا أكثر عمقا من الشعارات السابقة، إذ كان المعروف أن المثقف يقود المجتمع، إلا أن جيل الفيسبوك غير هذا المفهوم، وتقدم بجسارة إلى ميادين الحرية قائدا للثورات. خالد ينتقد الحبيب بورقيبة، ولا يفي بوعده أن يرسل إلي جانبا من سيرته الغامضة، وكيف زرعه الفرنسيون قبل خروجهم من البلاد، وأعلنوه مؤسسا للدولة التونسية، تساءل: "أي عهر هذا؟!".
في ختام الندوة ضحكنا وتصافحنا. لقاء نادر لا ينتهي بالشجار، لعلنا استنفدنا رصيدنا من الخلاف في لقاءات أخرى بالجزائر والرباط والقاهرة والدوحة. كنا قريبين من "مقام الشهيد"، أطلقت عليه في المرة السابقة اسم النصب التذكاري، كما يسمى في مصر وفي غيرها، ولكن دماء الشهداء في الجزائر تستحق أن تنتزع اسما خاصا، ربما يكون النصب التذكاري الوحيد في العالم الذي يحمل اسم "مقام الشهيد".
في وقت لاحق سوف أستقل التليفريك، أسبح في الفراغ، من دون سبب إلا الفضول، وأنتقل من موضع لآخر، وأنا قريب من الله، و"مقام الشهيد" أعلى وأقرب. يصعب على زائر الجزائر أن يقول إنه بلغ ذروة الأماكن، دائما هناك ما هو أعلى، من بعيد تشرف علينا القصبة وتطل، على الرغم من قسوة الاحتلال الفرنسي في طمس معالمها، لكي لا يراها البحارة من بعيد. أنشأوا فيها بنايات لا تناسب روح الجزائر ولا تاريخه، إلا أن مكر التاريخ والجغرافيا أكبر من آلة الاحتلال، وسرعان ما يستعيد المكان عافيته، وتتعرف الروح على الجسد، وتقوم قيامة القصبة، وفيها أستعيد مشاهد لمطاردات الثوار في فيلم (معركة الجزائر) للإيطالي جيللو بونتيكورفو، الفيلم الذي أنتج عام 1966، لعنة تلاحق القتلة، ولا يزالون يخشونه، ويمنعون عرضه في فرنسا.
في بيت بالقصبة استقبلتنا سيدة جزائرية. تحدثت قليلا بالعربية، وأسعفتها لهجتها الجزائرية مع الفرنسية. كان واسيني الأعرج يجيب عن استفسارات خالد النجار وخلات أحمد وناتالي حنظل. صعدنا سلما داخليا، هو جزء من باحة البيت، تطل عليه غرف. بيت متحفي لا مسافة بين حاضره وتاريخه الذي يضم بقايا مصدر للمياه، ومقتنيات تركتها أجيال من أسلاف العائلة. السيدة الفخور بأسلافها تحفظ تاريخ كل قطعة في البيت، وتقدم لنا حلوى وطعاما محليا تاريخه أقدم من فرنسا الحديثة. تفاصيل يجهلها قادة فرنسا الذين اعتبروا الجزائر جزءا من الجغرافيا الأوروبية، وادعوا أن الاحتفاظ بها دفاع عن الشرف الأوروبي، وراهنوا على البقاء الأبدي، واختار القدر الجنرال سيء الحظ شارل ديجول ليكون آخر سلالة المصابين بالبارانويا، وقد سمعته يستعير صوت عنترة بن شداد، خاطبا في جيشه عام 1959:
ـ إننا نعيش تمردا دام خمس سنوات، وخسارتنا للجزائر كارثة لنا وللدول الأوروبية.
وسوف يسجل التاريخ أن الجنرال المهزوم أول من قال: "فهمتكم".
قالها لشعب انتزع حريته، للجزائريين عام 1962. ثم استعارها زين العابدين بن علي، من دون إشارة إلى حقوق الملكية الفكرية، حين قال: "فهمتكم"، قبل يوم من هروبه أمام زحف التونسيين الأحرار.
غادرنا بيت السيدة. طاف بنا الدليل في القصبة، وبلغ منزلا وأشار إلى بابه، رأيت مثل هذا الباب في فيلم "معركة الجزائر"، وأسفت على يوسف شاهين، صنع فيلم (جميلة) قبل أن يرى السحر الجزائري. ذكر الدليل أسماء جزائريين استشهدوا في هذا المكان، وتمتم بدعاء أو سورة الفاتحة، ثم واصل السير والشرح، إلى أن وصلنا إلى مسجد أثري، قال خالد إن الفرنسيين كانوا قد حولوه إلى كنيسة، ضمن خطة شاملة لمسح الذاكرة المعمارية. كنا نلتفت وراءنا كلمنا هبطنا درجا، لكي نتأمل المحال والبيوت وبقايا الطرز المعمارية القديمة. لم نصعد قط، إذ بدأنا من أعلى، وانتبه الدليل، وقال إن الرحلة كان يجب أن تبدأ من تحت، فالصاعد يرى المشهد البانورامي بدقة، ولم يكن الوقت والجهد كافيين لرحلة صعود.
قلت إن العاصمة الجزائرية لا تستأثر بنصيب الأسد، في الأنشطة الثقافية، وانزعجت السورية خلات أحمد من ذكر كلمة "الأسد". انتبهت وقلت إن عجلة الثورة دارت، وهي لا تعود إلى الوراء أبدا، ولكن الثمن باهظ، وعلى الشعب السوري أن يدفع مهر الحرية، وهي تستحق. وكنا نستعد لرحلة قصيرة مدتها يومان إلى إحدى مدينتين، إلى قسنطينة في الشرق سيذهب قاسم حداد وخالد النجار، في لقاء (تكريم لمالك حداد)، وإلى تلمسان في الغرب أسافر بصحبة موسى بيدج، وسمعت مدحا لتلمسان التي تحتفل هذا العام (2011) باختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية. ابتسمت ساخرا من الفهلوة المصرية، إذ اختيرت الإسكندرية عام 2008 عاصمة للثقافة الإسلامية، وهو اختيار قوبل بدهشة واستنكار، ومر الأمر بصمت وسلام حتى إن كثيرين لا يعرفون أن الإسكندرية كانت طوال عام عاصمة للثقافة الإسلامية، وهي أبعد المدن عن مثل هذه الاختيار الذي يليق بالقاهرة أو أية مدينة أخرى، إلا الإسكندرية، المدينة الوحيدة في مصر، وربما في العالمين العربي والإسلامي، التي "فتحت" ثلاث مرات، قبل أن يتمكن منها عمرو بن العاص الذي غزا مصر، من دون مقاومة كبيرة، ثم استعصت عليه عاصمة البلاد الحصينة، الإسكندرية، وريثة المجد البطلمي، مقر الكنيسة المرقسية. استسلم أهل المدينة، ثم انتفضوا بعد عامين رافضين الجزية الكبيرة، وحرروا مدينتهم من المسلمين الذين عادوا إلى الإسكندرية مرة ثانية، ثم تلقى أهل الإسكندرية مددا بيزنطيا ساعدهم على طرد المسلمين مرة ثانية، وانتظروا مددا آخر لم تسعفهم به بيزنطة المرهقة بالخلافات المذهبية والسياسية، وانقض المسلمون على المدينة، وكان "الفتح" الثالث، والجزية التي احتملها أهل المدينة على كره منهم، وسبى عمرو بن العاص بعضا من أبناء أهلها، حتى إن البلاذري يسجل أن أهل الإسكندرية باعوا أبناءهم الذين نجوا من السبي لكي يسددوا الجزية.
لم يكن أهل الإسكندرية يعلمون أن مدينتهم ستختار "سرا" عاصمة للثقافة الإسلامية!
سافرنا بالطائرة إلى وهران. ومن هناك نستقل سيارة إلى تلمسان. لم تفارق الابتسامة قائد السيارة، كل مولود يبكي حين يستقبل الدنيا، إلا هذا الشاب الضحوك، قال إنه متعلم وسعيد بعمله، وسكت ليرد على مكالمة، وطمأن السائل بأننا في الطريق، بعد أن "عبأنا" من المطار، وسوف يكرر كلمة "عبأ" في تنقلاتنا بتلمسان. أضحك وأقول إن التعبئة تخص البضائع والأشياء، ويبتسم ويقول للسيدة المسؤولة عن الأنشطة الثقافية إننا معه في السيارة، وفي العودة يقول لها إنه "عبأنا" ونحن نقترب من الفندق.
نزلنا في فندق (إيبيس)، ورائحة الطلاء تقول إن العمل انتهى فيه قبل ساعات، لعلنا أول النزلاء. قالوا إن الفندق جديد، يفتتح بمناسبة ضيوف المدينة، عاصمة الثقافة الإسلامية، والغرف صغيرة، خالية إلا من حمام صغير، وسئلنا عما إذا كنا نريد الانتقال إلى فندق آخر؟ كنا قد تأخرنا على العرض المسرحي، والفنادق للغريب ليست ترفا، هي مأوى لساعات النوم الفائضة على فترات التجول والمسامرة، ولن نقيم هنا إلا ليلة واحدة، وفي الصباح سنغادر إلى قلعة المشور، ومنها إلى مطار تلسمان إلى العاصمة.
الشاب "عبأنا" في السيارة، وسارع بنا لكي نشاهد مسرحية "هل لم تكن تعلم؟"، المقتبسة من رواية "القط الغاضب" لمحمد ديب، من تقديم "الجمعية الثقافية الدار الكبيرة". كان الباب الخارجي مغلقا دون بضعة أطفال يمنع رجال الأمن دخولهم. اقترحت عليهم أن يسمحوا لهم، لعل أحدهم يصير يوما كاتبا أو ممثلا أو مخرجا بفضل مشاهدة هذه المسرحية. اعتذروا لامتلاء المسرح، وازدحام الممرات بالحضور، قبل بدء العرض، حتى نحن ليس لنا مكان. جذبتنا الموسيقى وحوارات الأطفال الممثلين، في سن أولادي، واليوم السبت 25/6/2011 عيد الميلاد الخامس لابني "آدم"، وهنا في المسرح أطفال في مثل سنه وأصغر منه، بصحبة أمهات وآباء فرحين بالمسرح، وبعضهم لا يعرف محمد ديب (1920-2003)، ابن تلمسان الذي عاش ودفن خارج بلاده.
في اليوم التالي قابلنا ميلود حكيم. ذهبنا إلى "متحف المشور"، في حرم القصر الملكي الزياني في قلعة المشور، هنا أيضا جمعية محمد ديب، تستعيد أعماله وتوثق كل ما يخصه، وتمنح جائزة باسمه، كل عامين، قيمتها مليون درهم جزائري. الجمعية ليست متحفا يعنى بتحنيط الماضي أو التغني به، هي أقرب إلى جهة بحثية غيور على إبداع ابن المدينة. قالوا لنا إن ترجمة أعمال محمد ديب الأولى في بيروت "خاطئة"، لا بد أن يكون المترجم جزائريا، ويفضل أن يكون من تلمسان، ليتمكن من نقل السياق التاريخي والحضاري والاجتماعي للنص الإبداعي.
مسجد القلعة بناه السلطان الزياني أبو حمو موسى الأول عام 1310 ميلادية، أما قلعة المشور فالعمل فيها جار بالداخل، وقد أزيح الركام عن الأسوار التي بناها السلطان أبو العباس أحمد العاقل عام 1446، فبدت القلعة قلعة تتحدى محاولات الاستعمار الفرنسي طمس معالمها. نجت أعمدة وقطع فيسفساء في القصر الملكي للمشور من جهالة الفرنسيين، ومازالت تحتفظ بخطوطها ونقوشها وكتاباتها الأصلية.."العز القائم لله" و"الملك الدائم لله"، ويحرص العاملون على ترك المعالم القديمة، وترميم المتساقط على الطراز القديم للقصر، النسخة الجزائرية من قصر الحمراء في غرناطة.
بالقرب من القصر دخلنا متحف في ساحة صغيرة تفضي إلى سوق شعبي. لا مسافة جغرافية ولا نفسية بين الجمهور والمتحف، منحوتات حديثة، تمد جسورا إلى معرض للمخطوطات الإسلامية، من مقتنيات مساجد ومكتبات ومثقفين، وقد عرضت في متحف سيدي بلحسن، وأصدرتها وزارة الثقافة في مجلد فخم، كما صدر أيضا مجلد آخر يضم لوحات (المهرجان الثقافي الدولي للمنمنمات والزخرفة)، بمشاركة فنانين من الشرق والغرب. والمعرضان جزء من معارض وأنشطة تستمر طوال عام تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية.
تهت في السوق الشعبي. يدفعني شارع إلى زقاق، ولا أعرف طريق الرجوع، ولا أذكر اسم المتحف الذي تركت فيه موسى بيدج، ولا اسم الساحة التي يصب فيها السوق، ولا أين ينتظرنا السائق. استمتعت بحالة الشراء، وجربت أن أساوم بائعا عجوزا، واقترحت سعرا أقل، ولم يرد، وعرف من لهجتي أنني مصر، إلا أنه سألني: "مصري؟"، قلت: "ما أنت عارف!"، فغنى لعبد الحليم، وانتهى بسرعة من يخاف ألا يسعفه الوقت، وغني لأم كلثوم من (سيرة الحب): لا أنا قد الشوق، وليالي الشوق، ولا قلبي قد عذابه. تركت ما في يدي وأنصت إليه، ثم سألته هل يوافق على السعر الذي أطلبه؟ فقال: "ما أنا غنيت للست، انتهينا، موافق".
لم يبق الكثير على موعد الطائرة، والشاب قال للمسؤولة إنه "عبأنا" من الفندق، ولمح بعينه ابتسامتي اللائمة، فأتبع وهو يبتسم مصححا أنه اصطحبنا من الفندق، وأننا في الطريق إلى مطار تلمسان!
First Published: 2012-02-29
(ينشر بالتزامن مع مجلة "المجلة")
سعد القرش
(ينشر بالتزامن مع مجلة "المجلة")
سعد القرش
روائي مصري
صري